ساعات عمر المختار الأخيرة يكتبها سجانه Livio Dall Aglio


ساعات عمر المختار الأخيرة يكتبها سجانه Livio Dall Aglio
Le ultime ore di Sheikh Omar Mukhtar carceriere scritto Livio Dall Aglio
The last hours of Sheikh Omar Mukhtar written jailer Livio Dall Aglio
________________________________________

 


ترجمة : د . إبراهيم المهدوي

بعد حوالى نصف قرن مضى على إعدام الثائر الليبى عمر المختار بواسطة ردولفو غراتسيانى، تحدث ليفى Livio Dall Aglio سجان عمر المختار عن الساعات الأخيرة التى قضاها عمر المختار فى معتقله بسوسة (1).
أشار كاتب المقال فى فقرات عنوان المقالة إلى عمر المختار باعتباره غاريبالدى ليبيا، وذلك بمناسبة توزيع فيلم عمر المختار أسد الصحراء على دور العرض العالمية بعد أن فرغ من إخراجه مصطفى العقاد السورى الجنسية، والذى كان قد قام بإخراج فيلم الرسالة من قبل، وقد بلغت تكاليف الفيلم الأخير حوالى 50 مليون دولار أمريكى، وقد تم الاعتماد فى سيناريو شريط عمر المختار على الوقائع التاريخية، ولكن برغم ذلك فقد تجاوز المخرج بعضاً من تلك الوقائع. وقد صرح مصطفى العقاد فى مقابلة صحفية له مع مجلة "الدستور اللندنية" بقوله: "ان قيامى بإخراج فيلم عمر المختار فى ليبيا، جعلنى أكتشف ولأول مرة مدى فظاعة جرائم الفاشيست الطليان فى ليبيا، حيث قام الجنرال رودلفو غراتسيانى أثناء محاولاته اليائسة تنفيذ خطته فى ترسيخ الاستيطان الاستعمارى فى ليبيا نقل 200.000 نسمة من المواطنين الأبرياء طوال ثلاث سنوات فقط قبل عثوره على الثائر عمر المختار واعتقاله".

ثم يستمر الكاتب فى توجيه بعض الانتقادات إلى الشريط منها استخدام نوع من السيارات الحربية أثناء محاصرة عمر المختار لاعتقاله كانت لم تستخدم بعد بواسطة القوات الإيطالية فى أفريقيا، ثم يشير إلى أن الجلاد الذى وضع حبل المشنقة فى رقبة عمر المختار لم يكن من بين أحد الفاشيست الإيطاليين، بل كان زنجيا سودانياً من أهالى البلاد يدعى محمود (2) وذلك وفقاً لما ذكره سجان الشهيد فى اعترافاته لكاتب المقال. ولكن الذى يعنينا فى هذا المقال ليس من وضع حبل المشنقة حول رقبة الشهيد، فهو واحد، فسواء كان الجلاد الحقير هو محمود السودانى السكير، أو غيره من المتعاونين مع رودلفو غراتسيانى سفاح ليبيا، فالذى يهمنا هنا أنه ساعد على توضيح بعض الجوانب الخفية فى تاريخ بلادنا حيث أشار باولو باقانينى إليها خلال حواره مع Livio سجان الشهيد عندما تم اعتقاله فى سوسة.

وقد قام الكاتب بتقسيم مقاله إلى فقرات صغيرة لكى يمكن إدراك تلميحاته إلى بعض النقاط التى يوردها على لسان السجان الذى قام بحراسة عمر المختار طيلة بقائه لبضع ساعات فى سوسة، كما نجد إن إحدى الفقرات بالمقال تعطى نبذة مختصرة عن الشهيد عمر المختار حيث يورد أنه قد ولد فى البطنان عام 1862م، ثم إلتحق فيما بعد بمدرسة الجغبوب القرآنية حيث قضى بها 8 سنوات استطاع بلباقته ومهارته اكتساب ثقة معلميه مما ساعد على انتقاله إلى الكفرة ثم اسند إليه منصب شيخ زاوية القصور عندما بلغ من العمر40 عاماً. وقد تزوج عمر المختار من ثلاثة زوجات فى حياته، كانت الزوجة الأولى من أقاربه المنفه توفيت بعد سنوات قليلة من اقترانه بها، أما الثانية فقد كانت ابنة أحد أعيان البلاد، والزوجة الأخيرة فقد كانت ابنة أحد المجاهدين توفيت خلال معركة وقعت ما بين المجاهدين بقيادة عمر المختار والقوات الإيطالية عام 1927م.

أثناء نقله بعد القبض عليه
 

وبعد احتلال بنغازى أصبح عمر المختار من أنشط المبشرين بالحرب المقدسة (الجهاد) ضد القوات الإيطالية، حيث كان يقوم بتحريض القبائل العربية وتدريب رجالها على السلاح، بالإضافة إلى أنه كان قد رفض عقد أية اتفاقيات من شأنها الخضوع للحكومة الإيطالية، حيث نجد غراتسيانى يورد ذلك فى مذكراته بقوله: (لقد كان عمر المختار يقوم بتحريض سكان الجبل بالتحرش ضدنا بل ومهاجمة الحاميات العسكرية الإيطالية وقطع جميع الطرق فى وجه قوافل التموين التى كانت تزود مراكز الحاميات العسكرية " كما حاول عمر المختار فى يونيو عام 1922م تكوين تحالف إسلامى مع الزعماء الوطنيين بإقليم طرابلس من أجل محاربة القوات الإيطالية.

ويمتاز عمر المختار بذكاء متوقد حاضر البديهية، كما أنه مثقف واسع الإطلاع خاصة فى الأمور الدينية ويرجع ذلك إلى تعليمه الدينى، وكان تقياً ورعاًعاش فقيراً طيلة أيام حياته، فى التخطيط والتنظيم للهجمات الشرسة التى كان يقودها ضد جنود الحاميات العسكرية الإيطالية. فقد كان دائما يحرص على قيادة المجاهدين بنفسه وأحايناً يكتفى بإدارة المعارك من بعيد. وبأتباعه أسلوب القيادة المعارك بنفسه كان يزيد من جذوة ارتفاع الروح المعنوية القتالية بين أتباعه ضد الإيطاليين، وعندما ترك إدريس السنوسى البلاد إلى مصر مع أتباعه، أصبح عمر المختار القائد الوحيد فى البلاد، حيث كان يقوم بجمع المال وقيادة حرب التحرير، وقد كان بالإضافة إلى ذلك يجمع الإتاوات السنوية التى كانت تدفعها القبائل البرقاوية لصالح حركة الجهاد، وبإصرار عمر المختار على خوض الحرب المقدسة ضد القوات الإيطالية بالرغم من قلة المؤن والعتاد بالإضافة إلى هروب الكثير من الشخصيات المرموقة إلى مصر وغيرها من البلاد إلى مصروغيرها من البلاد المجاورة استطاع عمر المختار قيادة المجاهدين لمدة 15 عاماً دوخ فيها القوات الإيطالية التى كانت تعتبر من القوات المجهزة بأحدث الآليات العسكرية الراقية فى ذلك الوقت، حيث جعل قادتها العسكر يشعرون بالخيبة والفشل بعد كل معركة يخوضها ضدهم، وقد تم القبض على عمر المختار يوم 11/9/1931 وفى يوم 16/9/1031 بسلوق جرى حكم الإعدام الصادر ضده شنقاً حتى الموت. وقد اعتبر المختار أحد شهداء الحرية ذلك لأنه استطاع أن يقدم أسلوباً جاداًليس فقط لليبيين بل إلى جميع المضطهدين فى العالم الذين كانوا يقاومون شتى أواع الاستعمار من أجل نيل الحرية لشعوبهم المقهورة. إن إعدام البطل عمر المختا بحضور الجنرال غراتسيانى نفسه الذى حرص على إعطاء إشارة البدء فى تنفيذ الحكم إلى الجلاد الطويل القامة والضخم الجثة الزنجى الليبى الذى كان يقف وراء عمر المختار فوق منصة المشنقة، لم يوقف حركة الجهاد الليبى التى استمرت ضد القوات الإيطالية كما توقع عمر المختار أثناء مقابلة غراتسيانى له فى مدينة بنغازى.


وقد أشار رودولفو غراتسيانى إلى أحداث الحرب الليبية كافة خاصة فيما يتعلق بوصف مراحل اعتقال عمر المختار إلى أن تم تنفيذ حكم الإعدام فيه، وذلك فى كتابه الأول بعنوان (برقة المهدأة) أما الثانى فقد كان بعنوان (السلام الرومانى فى ليبيا) والذى كان قد كتبه المؤلف على نسج عنوان الكتاب الأول تقريباً ويورد الكتابان المذكوران بالتفصيل بيانات جغرافية للمناطق البرقاوية بالإضافة إلى حصر لأسماء الشخصيات التى لها علاقة بأحداث الحرب الليبية الإيطالية، ولكن بالرغم من ذلك فإن غراتسيانى قد حاول الإشارة بإيجاز إلى عملية نقل عمر المختار إلى سوسة بعد اعتقاله فى سلنطة مباشرة، ولعل ذلك الإيجاز من غراتسيانى يخفى المعاملة القاسية التى لقيها البطل عمر المختار فى اللحظات الأولى من أسره فى سوسة قبل إن يتم اقتياده إلى بنغازى. تلك اللحظات كان يجب على غراتسيانى الإشارة إليها بالرغم من أنها تفضح المعاملة السيئة التى وجدها عمر فليس هناك أهم شىء لدى المؤرخ سوى محاولته معرفة تلك اللحظات فى حياة عمر المختار وذلك من خلال الاعتماد على الفضول التاريخى لكى يصل إلى ردود الفعل التى كانت قد زمت عمر المختار أثناء القبض عليه والذى كان يعتبر شخصية مهمة لما يتمتع به من وجاهة واستقامة بين مواطنيه، فقد كان عمر المختار يعتبر العقل المدبر للمجاهدين فى برقة، فقد استطاع القيام بحشد وتدريب بالإضافة إلى تنظيم وقيادة المجاهدين بكل مهارة ورباطة جأش وعزيمة قوية لم تعرف الاستسلام فى مقاومة القوات الإيطالية الفاشستية المجهزة بمختلف الأسلحة المتطورة وذلك طيلة سنوات الجهاد التى خاضها ضد قوات الغزو الإيطالى. وقد أورد غراتسيانى فى كتابه الأول من دون التوسع فى الشرح اللحظات الأولى لاعتقال عمر المختار ونقله إلى سوسة حيث أمضى ضع ساعات هناك ثم انتقل إلى بنغازى، حيث أشار فى بعض فصول كتابه قائلاً: "لقد اتسم عمر المختار بالهدوء والصبر أثناء الاتصالات الأولية التى قام بها بعض المسؤولين الإيطاليين معه، حيث أجاب بهدوء على جميع الاسئلة الموجهة إليه بنبرات تحد وتمرد "، وقد وصل عمر المختار إلى بنغازى يوم 12/12/1931 عند تمام الساعة الخامسة مساء على ظهر الطراد اورسينى، حيث كان يرافقه متصرف الجبل والقائم مقام كاستريوتا.


أثناء المحكمة


ومن خلال قراءة بعض فقرات من كتاب غراتسيانى (برقة المهدأة) فى طبعته الأولى يظهر جلياً للقارئ إن غراتسيانى طمس بعض المعلومات التاريخية المهمة، حيث نجد المؤلف قد أشار إلى اعتقال عمر المختار بسرعة وبإيجاز لدرجة أنه اكتفى بعدم الإشارة إلى أسماء بعض الشخصيات التى حضرت بسرعة إلى مكان اعتقال المختار للتعرف عليه، بالرغم من أنه أشار إلى رتب تلك الشخصيات والوظائف التى كانت تشغلها بالرغم من أنه كان من المعروف عن غراتسيانى اهتماماته الدقيقة بالشخصيات الوادة خلال الوقائع التاريخية وذلك من حيث عنايته بذكر شتى التفاصيل الخاصة بتلك الشخصيات سواء كانت الأسماء والألقاب التى كانت تعرف بها بالإضافة إلى ذكر الوظائف التى كانت تشغلها. إن غراتسيانى قد أشار بغموض إلى شخصية متصرف الجبل الذى كان قد رافق عمر المختار إلى بنغازى. فلماذا لم يورد غراتسيانى فى الطبعة الأولى لكتابه الكمذكور اسم المتصرف الغامض؟ بينما حاول بواسطة جبرية حتمية تاريخية إن يورد اسم داودياتشى لأقدميته فى رتبة جنرال باعتباره متصرف الجبل الأخضر فى جميع الطبعات التالية للكتاب، بينما حاول التستر على القاتل الحقيقى أغسطس ملاكريا والذى كان متصرف الجبل الفعلى أثناء قضية اعتقال عمر المختار، فماذا وراء قصد غراتسيانىعندما اغفل ذكر اسم متصرف الجبل؟.

ولإزالة الغموض نقول أن متصرف الجبل هو المدعو أغسطس مالاكريا الذى كان أحد المتورطين عام 1924م فى حادثة مقتل ماتيوتى زعيم الاشتراكيين الطليان مما جعل موسلينى يقربه إليه حيث أسند إليه منصب متصرف الجبل فى ليبيا. هذا وقد تم نشر كتابى رودولفو غراتسيانى وهما:" برقة المهدأة" و" السلام الرومانى فى ليبيا" بكل حرص وحكمة فقد كان نشر الكتابان المذكورين يهدف إلى غاية ما، لذلك كان على المؤلف غراتسيانى التحليق بعيداً عن بعض الوقائع التاريخية وذلك بحرصه على عدم ذكر اسم المجرم القاتل مالاكريا خاصة فيما يتعلق بمناسبة إلقاء القبض على الشيخ عمر المختار، فقد حاول المؤلف إعادة إيراد الوقائع التاريخية لتلك الواقعة بصخب رنان بدلاً من ذكر الحقيقة بالتفصيل.

 
وإذا ما عدنا إلى الواقع نجد أن اعتقال عمر المختار قد تم بعد مناوشة بالذخيرة الحية حدثت مابين المجاهدين بقيادة عمر المختار نفسه وسرية الصوراى للفرسان التى كان أغلبية جنودها من الليبيين، حيث أصيب حصان عمر المختار بطلقة نارية فوقع على الأرض وعلى ظهره عمر المختار الذى أصيب بجرح بسيط، مما أدى إلى محاصرته بجميع يحاول الاختباء تحت إحدى الشجيرات حيث لم يبق طويلاً حتى تعرف عليه أحد الليبيين الذين كان من بين جنود سرية الصوارى الإيطالية، حيث أخ يصيح بأعلى صوته منادياً بقية الجنود قائلاً: "عمر، عمر المختار أسرعوا" مما جعل ضابط السرية يصدر أوامره لجميع الجنود بمحاصرة الجريح من أجل اتخاذ الاستعدادات السريعة لنقل عمر المختار إلى مقر القوات الإيطالية فى سوسة.

وقد صادف أن كان غراتسيانى فى روما يستعد لأخذ القطار إلى باريس لزيارة معرض المستعمرات، وعندما علم باعتقال عمر المختار سافر بالطائرة رأسا إلى طرابلس فى الساعة الواحدة صباحاً، ومن طرابلس سافر على متن طائرة عند الساعة 14 بعد الظهر إلى بنغازى وذلك لمشاهدة عمر المختار الذى كان مكبلاً بالسلاسل يرقد فى السجن تحت حراسة مشددة.

وقد كان لانتشار نبأ اعتقال عمر المختار صدى عميقاً بين فرق القوات العسكرية الإيطالية والمواطنين فى البلاد، وقد وجد غراتسيانى أن تلك فرصة ثمينة لايجب التفريط فيها، فقام باستغلالها إعلامياً من أجل تدمير أسطورة البطل عمر المختار، كذلك من أجل إخماد استمرارية المقاومة نفسياً لدى المجاهدين الليبيين وكذلك فى نفوس بقية المواطنين العرب حيث أخذ يلوح بالدرس القاسى الذى لحق بعمر المختار على حد قوله بسبب عناده وعدم استسلامه لسلطة الحكومة الإيطالية.

وقد تحدد مصير عمر المختار يوم 15/9/1931م فى صالون بلاس ليتوريا بمدينة بنغازى، حيث تم إجراء محاكمة صورية له تك فيها الحكم عليه بالاعدام شنقاًحتى الموت وفى صباح يوم 16/9/1931 كما يورد غراتسيانى فى كتابه (برقة المهدأة) بقوله: "عند الساعة التاسعة صباحاً بالضبط من يوم 16/9/1931 وبحضور جميع أعيان القبائل البرقاوية فى المعسكرات القريبة من بنغازى تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً فى عمر المختار زعيم الثوار المتمردون"، (إنا لله وإنا إليه راجعون) هذا ماردده عمر المختار عندما وقف على منصة المشنقة، ولكن نجد أنه فى الحقيقة وقبل تنفيذ حكم الإعدام فيه قد قال بازدراء ومن دون مبالاة للجنود الطليان المحيطون به: "هكذا أنتم أيها التعساء، ليس لديكم على الأقل رصاصتين تقتلونى بهما"، ها هو نص العبارة التى رواها ليفى الذى كان يعتبر شاعد عيان الحرب الليبية والذى تم بواسطته كشف غموض شخصية متصرف الجبل أغسطس مالاكريا، كما أنه ساعد برواياته أن يسد ثغرة الساعات الأخيرة من حياة عمر المختار التى قضاها فى المعتقل بسوسة تحت الحراسة المشددة.

ولقد كان من أهم واجبات متصرف الجبل مالاكريا المكلف بها هى إخضاع سكان منطقة الجبل بالقوة، لذلك أصبح من واجبات فرقة الصوارى غير النظامية والتى كانت تتكون من أهالى البلاد والتى كانت تعتبر رهن إشارة متصرف الجبل حمياة القبائل فى تلك المناطق من غارات رفاق عمر المختار الذين كانوا يقومون بتلك الغارات المتكررة على نجوع القبائل من أجل الحصول على الماشية والتموين اللازم بعد قيام غراتسيانى بإغلاق الحدود الليبية المصرية بالإسلاك الشائكة لمسافة 270كم، من أجل منع وصول التموين للمجاهدين والذين كان يصلهم عن طريق الحدود المصرية وعندما تم إلقاء القبض على عمر المختار سارع متصرف الجبل للتعرف على هوية الأسير، لذلك فعندما فرغ من التأكد من شخصية عمر المختار قام بإيداعه لدى السجان ليفى مساء يوم 11/9/ 1931 فى سوسة أشار إليه محذراً وهو يرفع سبابته فى وجهه نحو عمر المختار قائلاً: "هل ترى هذا المتمرد، أحرص لا تدعه يهرب منك، لأنى سوف أقتله" وقد حاول المجاهدين من أتباع عمر المختار الإفراج عن زعيمهم بعد ما علموا بوقوعه فى الأسر بواسطة القوات الإيطالية، وذلك بعد انتظار له لم يدم طويلاً. ويصف شاهد العيان ليفى، عمر المختار قائلاً: "كان شيخاً متوسط الطول عيداً، عيناه تشعان ببريق الدها والحيلة، ويبدو منظره كطائر جارح بسبب التقوس الذى يبدو فى ظهره، بالإضافة إلى عمق التقاطيع التى تمتد من أعلى جبهته لتستمر فوق حاجبيه ثم تنحدر إلى أسفل حيث تتقاطع عند فمه ثم تتوارى عند ذقنه تحت لحيته البيضاء القصيرة أما لون بشرته فإنه كان يميل إلى اللون الأسمر. ويستطع المرء أن يدرك مدى مايتميز به عمر المختار من سمو وطموح بالإضافة إلى عزة النفس عن قرب، حيث أن تلك الصفات جميعاً لا تنفى مدى مايتصف به من نبل ووجاهة". وقد نظر عمر المختار إلى سجانه قائلاً: "هل تعرفنى؟ فأجاب ليفى بقوله: "كلا لم اعرفك أبداً" ولكن عمر المختار بادره بهدوء: "أنى قد رأيتك عدة مرات، فأنت معروف بين الأهالى بارتدائك الزى العربى، كما أنك تعتبر أشهر وأسرع فى إطلاق النار، أنا أعرف ذلك فالحرب هى التى جعلت منا أعداء. أن رجالى يعرفونك جيداًحيث يلقبونك باسم الشيطان فأنت الذى نت تحرس بنات القبيلة عندما كن يقمن بزيارة سيدى عبد الواحد، أتذكررجالى عندما قاموا بمهاجمتك عند وادى الكوف، لقد نجوت بأعجوبة من وابل الرصاص عندما اضطررت إلى تغيير الحصان الذى كنت تمتطيه والذى كان قد أصيب بطلقات الرصاص لثالث مرة، فلنقل لأن الله قد نجاك، بعد توقف إطلاق النار، هذا كل ما حدث وأنا الأن اعتبر نفسى سجينك" وعندما توقف عمر المختار عن الكلام، بادره ليفى بقوله: "سوف أعقد معك معاهدة سلام إلى الضيف، فأنت لست سجينى فقط بل ضيفى فى اليوم الأول، حيث يعتبر الضيف عندكم فى ذلك اليوم ابن الله". ثم يستمر ليفى فى روايته أن عمر المختار قد التفت إليه مجيباً إياه بقوله "السلام عليك" حيث رد عيه ليفى وهو يرتكه لوحده قائلاً: "وعليك السلام إلى غد".

وستمر السجان فى روايته لكاتب المالة السنيور باولو باقانينى بقوله: "وعندما تركت عمر المختار لوحده، ذهبت لإعداد الطعام له، والذى يتكون من طهى دجاجة له، وعندما قدمت له الطعام، اعتدل عمر المختار فى جلسته ولم تمر إلا ثوانى وقد التهم الدجاجة حيث لم يترك منها إلا العظام بعد أن خرطها من اللحم بواسطة أسنانه الناصعة البياض، وعندما شعر بنظراتى تتجه إليه التفت إلى قائلاً: "إن اللحم يعتبر غذاء رئيسياً لى لانه يمنحنى القوة" وبعد أن فرغ من التهام الطعام جلس وأخذ ينظر إلى بينما بادرته قائلاً: "أريد أن أسالك الآن" وبعد أن رد بالإيجاب هو يعتدل فى جلسته قلت له متسائلاً: كيف اتسطعت انت ورفاقك البقاء على قيد الحياة طويلاً دون حماية وتموينات؟ أجابنى وهو يهز رأسه قائلاً: "نحن البدو مثل عصافير السماء التى تجد ما تأكله فى المكان الذى يخيل إليك أنه يخلو من الطعام".

وبعد أن تركت عمر يسرح فى خياله، نهض من مكانه وهو يزمجر غضباً كالأسد متأثراًبما حصل له، بينما أخذ يتفوه ببعض العبارات يرددها قائلاً: الكلب .. الكلب، حتى عمر غدر به، حتى عمر كان له يهودا وعندما هدأ غضبه اقتربت منه حيث جلس وأخذ يروى كيف وقع من على حصانه الذى أصيب بجراح، ثم كيف حاول الاختباء تحت الشجيرات القريبة منه، ولكن أحد فرسان الصوارى والذى كان من العرب استطاع اكتشاف عمر المختار وهو مختبئ تحت الشجيرة. يصمت عمر قليلا، ثم يضيف بحدة وغضب عن العربى الذى اكتشفنى تحت الشجيرة يعتبر أخى، لم يسكت بل بدأ يصرخ عندما عرفنى بأعلى صوته باسمى كاملا ص، وهو يردد عمر، عمر المختار، فلو أن ذلك الكلب الخائن لم يتفوه بكلمة واحدة عنى لربما تم نقلى مع بقية الأسرى كشخص عادى، فلا أحد يعلم فيما بعد فربما أستطيع الهرب بمساعدة أحد رفاقى".

وطوال تلك الليلة التى قضاها عمر فى سوسة، والتى لم يعرف أبداً بأنه سوف ينقل بواسطة البحر إلى بنغازى صباحاً أخذ يروى شتى القصص على مسامعى، بينما كان بين الحين والآخر يتململ وهو يتآوه قائلاً: مكتوب، مكتوب فالذى قد سطر فلا مفر منه، فحياة الإنسان كالسبحة تتساقط حباتها متتالية مثل توراد الأفكار على الإنسان نفسه، فمرة يشعر بالسعادة وأخرى بالحزن، وهكذا ينتهى إلى النهاية فمرة حظ سعيد وأخرى حظ سيىء تعس، فالمكتوب هو المكتوب لن يتغير أبداً" وبعد أن توقف عن الكلام حدجنى بنظرة وهو يقول:" أنت شاب محارب مخلص، فأنا مسرور جداً لأكون سجينك، هذا بالإضافة إلى أنك متزوج من فتاة مسلمة عربية من قومنا، ولكن المسلمة لا تتزوج مسيحى " فقاطعته قائلاً" إن الفتاة العربية التى من قومك قد تزوجت من رجل طيب وأمين ثم بسطت له يدى مصافحاً".

ثم يستمر ليفى سجان الشهيد فى سرد حكاياته عن الساعات الأخيرة فى حياة البطل عمر المختار حيث يصف شخصية البطل السملم المؤمن بالقضاء والقدر بقوله: " وفى الحقيقة كان عمر رجلاً يصلى لله من انبلاج الصبح إلى غروب الشمس مع نهاية كل يوم، رجلاً يصلى لله ليلاً بدلاً من أن يتمشى، رجل يصلى لله من أجل أسرته وماشيته ثم الطريق الذى سوف يسلكه، رجلاً يصلى لله من أجل حماية حياة المسلمين جميعاً ومن أجل مواصلة الكفاح العادل المقدس الذى أمر به الله سبحانه وتعالى، الله أكبر، الله أكبر، ألقى عمر المختار نظرة إلى الخارج، إن بزوغ الصبح لقريب هكذا قال وهو يتململ فى مكانه ثم أضاف قائلاً:" إن بزوغ النهار يكون طرياً منعشاً مثل صوت شابة تغنى على البئر، ثم يكون توالى النهار فيما بعد باعثاً على السأم والملل مثل سير خطوات الجمل البطيئة، أو حارق مثل حدوة الحصان الذى يركض مسرعاً وأخيراً المساء وهو مثل لون الرماد، إن الحياة مثل تعاقب النهار، شعارها فعل وإرادة يكونان معاً شيئاً مهما فى حياة الإنسان، ثم يتدخل القدر فيما بعد ليدل على مصير حياة الإنسان".

إن حتمية النهاية أو المكتوب "القدر" بالنسةب للإنسان تأتى تلقائياً مثل نافورة مياه أو مسجد فى الصحراء عندما تصل إليهما تجد نفسك تعبان وبالتالى غير قادر على مواصلة السير، فتبقى تنتظر بجوارهما حلول المساء أو بمعنى أخر النهاية أو المصير، فأنت كما ترى أن حياتى قد رسمت مسيرتها منذ الولادة حتى النهاية.فحياتى ليست مثل حياة أولئك الشبان تبدأ مع شهر رضمان ولكنها كانت قد بدأت قبل ذلك، فأناولدت لأقود الآخرين ولأفهم ماجاء به القرآن الكريم من معان، بينما البعض الآخر يكتفى بتعلم قراءته فقط ثم قام عمر بخلع جرده عن كتفه، وبينما انهمك ليفترشه فوق قراءته فقط ثم قام عمر بخلع جرده عن كتفه، وبينما انهمك ليفترشه فوق حصيرة الديس استعداداً للنوم خرجت أنا- ليفى- لأقوم بالدورية الليلية المعتادة ممتطياً صهوة حصانى ولك للتأكد من أن كل شىء يدور حول المعسكر على مايرام، وما أن رجعت إلى عمر بعد أن تأكدت من الهدوء الذى كان يحيط بالمعسكر، حيث وجدته مستغرقاً فى النوم، بينما لا زال رفاقه لم يعرفوا بعد المكان الذى نقل إليه، مما جعل ابن عمر المختار الذى يعتقد أن المختار لم يقبض عليه بل تاه ولم يستطع الوصول إليهم بسبب الجروح التى أصيب بها يجرى مهرولاً فى الجبل منادياًبيأس: يا باتى، ياباتى، بينما كانت أسرته تشعر بالقلق عليه لعدم عودته مع رفاقه كالعادة.

وفى الفجر عندما سمع عمر المؤذن ينادى المسلمين لأداء الصلاة بقوله "الله أكبر، الله أكبر" قام عمر من نومه وتوجه نحو القبلة بمكة وأدى الصلاة كبقية المسلمين " وفى الحقيقة وجدت نفسى (ليفى) معجباًبفلسفته فى الحياة، فهو يشعر فى وجدانه بأنه محارب وقد هزم ولكنه لم يفقد الهدوء وعزة النفس والوقار الذى كانت تتميز به شخصيته ".

وعند تمام الساعة السادسة صباحاًقمت بمرافقته إلى الطراد الحربى اورسينى حيث تم التسليم والاستلام مع الجنود الذين اقتادوه على داخل الطراد بينما كان يلقى على تحية الوداع وعندما عدت إلى المعسكر، كنت أفكر فى عمر المختار بينما كنت أهمس إلى نفسى فى هدوء لربما أراه وربما لن أراه أحقاً أن الموتى لايرجعون " وما أن وصلت إلى المسكر حتى قلت لنفسى، يموت عمر، لا مفر من ذلك، أنا أن ياقاسى إهانة الشنق كأى مجرم عادى أو أى شرير جاحد لله، فهذا مايعتبره اللمسلمون إهانة، حيث يعتقدون أن حبل المشنقة عندما يلتف حول الرقبة لا يسمح بخروج الروح من الحلق(2)، وهكذا كما يعتقدون أن روح عمر المختار لن تستطيع الرجوع على الخالق". http://www.jeel-libya.net/graphics/FootDivide.gif* هذه الترجمة نقلا عن كتاب (دراسات في الأرشيف والمعلومات)، إعداد إبراهيم أحمد المهدوي، بنغازى، منشورات جامعة قاريونس، ط 1، 1998،411 -426.
1.Paolo A.Paganini: Le Ultime Ore del Garibaldi Della Libia. Storia IIIustrata N.272.Luglio 1980.pp.46-54..2هذه بحسب المفهوم المسيحى للسجان الإيطالى.
- إبراهيم أحمد إمحمد المهدوي من مواليد 1944 ببنغازي. ليسانس آداب (فلسفة واجتماع) العام الجامعي 1968-1969، ماجستير علوم مكتبات ومعلومات (الولايات المتحدة الامريكية 1972)، دكتوراه (الأرشيف الجاري والتاريخي) بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى من كلية الآداب بجامعة روما عام، 1980. له العديد من الكتب والمؤلفات وقد قام بترجمة الكثير من الكتب عن اللغة الايطالية والانجليزية، وهو باحث نشيط له مشاركات في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية والكتابة في المجلات والدوريات العلمية المتخصصة، كما انه اشرف على العديد من الرسائل الجامعية بقسم المكتبات والمعلومات بجامعة قاريونس.






تعليقات

  1. حقا تعود الروح الى الخالق و لا سيما إذا كانت زكية.

    ردحذف

إرسال تعليق

لا تذهب قبل ان تضع تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأمثال الشعبية الليبية

غـــنـــــاوي وشـــتـــــاوي على ( الــــقــــــديـــــــم )

ما بي مرض غير دار العقيلة.. للمجاهد الفقيه رجب بوحويش