نهاية الدولة الزعامية؟





د/ المولدي الأحمر                                                  


إنّ ما كان يثير المحلّلين والمراقبين للوضع في ليبيا خلال الأربعين سنة الماضية هو الاضطراب المستمرّ للحياة السياسيّة في البلاد. ويحيل بعض المحلّلين تلك الظاهرة إلى شخصيّة معمّر القذّافي نفسه التي تكره الروتين وتحبّ الأضواء وصخب النّشاط السياسي الممسرح. وهذا صحيح إلى حدٍّ ما. ولعلّ جاه السّلطة ونعمها، والتعوّد سنين طويلة على القيادة واعتباراتها، قد ضخّم كثيرا من هذا الجانب في شخصية الرجل، لكن الأسس السوسيولوجية والأنثروبولوجية لهذه الظاهرة تكمن في رأينا في مكان آخر. ذلك أنّ النظام الزعامي (كما قدّمنا مواصفاته في غير هذا المكان.) يشكو من علّة هي في حدّ ذاتها جزء من كينونته السياسية. ففي غياب نظام من القوانين -أو من القيم التي لها قوّة القانون- تساعد على نقْل السلطة بين الأجيال بطريقة سلمية، كما هي الحال مثلا بالنسبة إلى المشيخة الكبرى لدى بعض الطرق الصوفية أو في النظم الملكية الدستورية الحديثة؛ يعجز النظام الزعامي عن ضمان استمراريّة مؤسّسات الحكم من جيل إلى جيل دون اللّجوء إلى العنف المادّي أو إلى التحايُل على القوانين. بل إنّ النظام الزعامي في أخلص مظاهره، كما يمثّله معمّر القذّافي، يكره حتى وجود قانون ينظّم علاقة الحكم بينه وبين من يحكمهم. وبما أنّ النظام الذي أرساه القذّافي يغلق الباب بشكل محكم أمام التّداول السّلمي على السلطة، فإنّ المكانة السياسية التي يحتلّها على رأس هذا النظام كانت دائمًا محطّ طمع أعدائه الطموحين غير المعلنين. كما أنّ أقرب المراتب من الزعيم كانت دائمًا موضوع صراع بين أتباعه، بين أبنائه أوّلاً، ثم بين أعضاء اللجان الثورية الذين يعتمد عليهم في المحافظة على شروط احتكار إنتاج زعامته. وهذا هو المحور الحقيقي للتوتّر المستمر في الحقل السّياسي الليبي، إذ أنّ الزعيم مضطرٌّ باستمرار إلى إعادة ترتيب المواقع والروابط التي تحدّد نصيب كلّ طرف من موارد دولته ونعمها بحسب السّياق الداخلي والمخاطر الخارجيّة.
تنتشر اللّجان الثوريّة في ليبيا في كلّ مكان تقريبا (شعار: "اللجان في كل مكان"). وهي ليست حزبا يمكن للأصول الاجتماعية لمنتسبيه أو لأيديولوجيتهم أن تضع قيودًا ولو أخلاقيّة أمام حرية الانتماء إليه. وأعضاؤها غير مقيّدين في نشاطهم -القاعدي على الأقلّ- بنظام بيروقراطي يفرض على المنتمي إليه التدرّج في مراتب القيادة على قاعدة قدرته على الإشعاع السّياسي بين أعضاء التنظيم، واعتمادًا على الانتخابات الداخلية. إنها إطار تنظيمي يشبه الرّداء غير المفصّل الذي يمكن له أن يتلبّس بكلّ وسط اجتماعي دون التأثّر بتقاطعاته العموديّة والأفقية. وبما أنه كذلك، فهو قادر على الاشتغال سياسيًّا على كلّ تفاصيل علاقات القرابة والجيرة والصّحبة والمصلحة التي تربط بين الناس.
 وهكذا أصبح كلّ مكوّن اجتماعي أو جغرافي أو ثقافي من مكوّنات المجتمع الليبي مخترقًا من طرف اللجان الثورية. وفي تقاطع معها، أسّس القذافي -الذي يعتبر القبيلة رداءً اجتماعيا وظيفيًّا- ما سمّاه المجالس القبلية، وهي إطار تتمّ من خلاله مراقبة العلاقات الداخلية التي تربط بين المجموعات القبلية في كلّ مكان، وتطويعها لمصلحة النّظام السياسي السّائد. لكن تجربة القذافي الطويلة في الحكم بيّنت له أنه مهْما طوّر من أساليب المراقبة السياسية، فإنّ المجتمع قادرٌ دائما على ابتكار أساليب الإفلات من تلك المراقبة. ولسدّ مثل هذه الفجوات أسّس في منتصف التسعينيات تنظيمًا آخر يتقاطع مع "اللجان الشعبيّة" و"المجالس القبلية" ولكنه يختلف عنهما أيضًا سمّاه "القيادات الشعبية"، وهو موجّه تحديدًا إلى مراقبة الأحياء الشعبيّة في المدن. وفوق كلّ هذا الأطر وتحتها وبينها، شكّل القذافي منظوماتٍ أمنيّةً خاصّة تراقب الجميع ويراقب بعضها البعض، كما سمح لأبنائه بتكوين كتائبَ عسكرية جيّدة التّسليح لحماية النظام عند الحاجة الماسّة، دون الاعتماد على الجيش النّظامي.
وهكذا أصبح بإمكان معمّر القذافي أن يتربّع على قمّة تنظيم قرابي زبوني أمني لمجموعة زعامية فذّة، أمّنت لنفسها موارد الدولة، ومنعت بالقوّة والسياسة تبلور أيّ ديناميكية مستقلّة منتجة لزعامة غير زعامة قائدها الأوحد. وبما أنّ اللّجان الثورية لا تحكم بل تحرّض على الثورة المستمرّة وعلى حكم الشّعب لنفسه دون وسطاء، فإنّ زعيمها لم يحصر نفسه في أيّ وظيفة سياسية دقيقة توجب المحاسبة أو المساءلة. فهو مثل الملك الدستوري غير مسؤول عن سياسة حكومته، ومنصبه الثوري خارج عن كلّ منافسة مثلما هي حال شيخ الطريقة.
لكن ليبيا 2011 لم تعد ليبيا 1969، فخلال هذه السّنين الطويلة أصبح معظم الليبيّين يسكنون المناطق الحضرية ومرتبطين بشبكات الماء والكهرباء والهاتف. كما أنّ زيادة الدّخل الفردي للسكان أعطت للكثير منهم فرصة السّفر والاطّلاع بشكل مباشر على ما يجري في العالم الخارجي على المستوى التّنموي والثقافي، بينما وفّرت لهم وسائل الإعلام الحديثة فرصة المقارنة السياسية بين ما يجري في بلادهم وبقيّة العالم.
على مستوى آخر، بدأت المعاهد الثانوية والجامعات تفرغ في سوق العمل الليبية أعدادًا كبيرة من طالبي الشغل، لم يهيَّؤوا مهنيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا لأخذ مكان الأجانب في الأعمال الحرفيّة الصناعيّة والخدميّة، أو لتعويض هؤلاء في قطاعات البناء والفلاحة وغيرهما، فاستقرّوا على البطالة عالةً على عائلاتهم وغير قادرين على تأسيس عائلات خاصّة. وفي مقابل ذلك نشأت نخبةٌ من جيل جديد محظوظ سياسيًّا واقتصاديًّا، هو جيل أبناء اللّجان الثورية ومختلف التنظيمات الأمنيّة -الدّرع الواقية للنّظام- الذين تمرّس آباؤهم في استخدام روابط القرابة والزبونية لشقّ الطّرق نحو موارد الدّولة ونعمها وسلطاتها. وقد جعلتهم مواصفاتهم هذه موضوع تنافس بين أتباع الزّعيم المحيطين به، ومنهم بالتّحديد أبناء العقيد.
ولكن في هذا الوقت أيضًا بدأ الأفق الاجتماعي يزداد انسدادا أمام كلّ من لم يغنم شيئًا مُرضيًا من موارد البترول الطّائلة، تلك التي يعِد بها القذّافي شعبه في بداية كلّ سنة ثورية جديدة بمناسبة المؤتمرات العامّة للّجان الثورية. وبدأت وطأة الاستبداد السّياسي تجد تعبيراتها المضادّة والمختلفة، تارةً في التنظيمات السياسيّة الدينية السرّية التي يقتلها النّظام تقتيلا (حادثة سجن أبو سليم في طرابلس على سبيل المثال)، وتارةً في الانقلابات العسكرية الفاشلة التي اتّعظ منها الزّعيم فأضعف جيشه إلى الحدّ الأدنى من القوّة، وتارةً في تشكيل جبهات معارضة في الخارج سرعان ما يلصق بها القذافي تهمة الخيانة والاستقواء بالخارج. ورغم أنّ النّظام صمد في وجه كلّ هذه المحاولات، إلاّ أنها شكّلت إيذانا بدخوله في أزمة حقيقيّة، خاصّةً عندما صارت مطالب الدّيمقراطية أكثر إلحاحًا على الأنظمة السياسيّة المجاورة، ثم انفجرت الثورات الشبابيّة من حوله في تونس ومصر. ورغم ذلك فإنّ سؤال الحداثة السياسية الذي سيبقى مطروحًا في ليبيا هو: إذا كان القذافي قد منع الليبيّين من التدرّب على ممارسة الفعل السياسي بأدوات العصر الحديث فهل سيعيدون التأسيس لدولة زعامية جديدة من بعده؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأمثال الشعبية الليبية

غـــنـــــاوي وشـــتـــــاوي على ( الــــقــــــديـــــــم )

ما بي مرض غير دار العقيلة.. للمجاهد الفقيه رجب بوحويش