بعض ملاحظات في اللهجة العربية الليبية وصلتها بالفصحى

بعض ملاحظات في اللهجة العربية الليبية وصلتها بالفصحى(*)

للأستاذ محمد فريد أبو حديد عضو المجمع

ليس من اليسير تتبع لهجة من اللهجات، وتبيين العلل التي أدت إلى تحور ألفاظها وأساليب تعبيرها، وإرجاع ذلك إلى أصله في اللغة الفصحى، فإن هذا يحتاج إلى درس مستفيض واستقصاء شامل، ولم يتح لكاتب هذه السطور أن يقوم بمثل هذا الدرس فيما يتصل باللهجة العربية الليبية، أو بقول أدق باللهجات العربية المختلفة في ليبيا. فإن كنت أشير في هذه الكلمة بعض إشارات إلى هذه اللهجة فما ذلك إلا بمثابة ابتداء يسير وملاحظات محدودة الصدى، وأرجو أن يتاح لسواي من الباحثين بمالم يتح لي؛ فإن مثل هذا البحث يعود على دراسة اللغة الفصحى بفوائد كثيرة. ونشوء اللهجات من اللغة الفصحى أو اللغة الأم تطور درجت عليه الإنسانية في قديمها وحديثها. واللغات كسائر الظواهر الإنسانية في تطور مستمر سواء ما كان منها فصيحًا أو عاميًّا. فاللغات الفصحى التي عرفها الإنسان تتطور في اتجاهين مادامت حية أحدهما: اتجاه خاص بها بصفتها لغة مقننة ذات أصول وحدود. وثانيهما: اتجاه متفرع منها وذلك بنشوء صيغة ميسرة تتحدث بها الشعوب في حياتها اليومية. والمتأمل في اللغات جميعًا يلاحظ أن تطور الصيغة الشعبية أو العامية يكون في العادة أسرع خطًّا من تطور اللغة الفصحى.

وقد حدث في بعض اللغات أن اكتسبت بعض الصيغ الشعبية والمتفرعة عنها مكانة خاصة خلعت عليها صفة اللغة الأصلية لقوم بعينهم، فتصير بالنسبة إليهم لغة فصحى وتتطور في اتجاهها الخاص، فتصبح مقننة ذات أصول وحدود، وتبطئ خطاها في التطور بعد ذلك بالقياس إلى سرعتها في تطورها الأول عندما بدأت كصيغة شعبية من اللغة الأصلية.

ــــــــــــــ

(*) عرض بالجلسة الثامنة، لمؤتمر الدورة الخامسة والعشرين، ودارت حول البحث مناقشات، انظر محاضر جلسات مؤتمر الدورة الخامسة والعشرين (سنة 1959) .

وهذا ما حدث في لهجات أوربا التي تفرعت عن اللاتينية كالإيطالية والفرنسية والإسبانية، وهذا ما حدث في اللغة العربية جريا على سنة التطور الطبيعية.

إن الباحث في تطور اللغات الأوربية قديمها وحديثها يجد أنها كانت سريعة التغير إذا قسناها باللغة العربية، فاللغة العربية تحتفظ بخصائصها العامة وحدودها وأصولها، وإن كانت في صورتها الحاضرة تختلف في كثير من ألفاظها عن صورتها في العصر الجاهلي وصدر الإسلام. وقد دخلت إليها ألفاظ بعيدة للدلالة على معان جديدة، كما طرأت على كثير من ألفاظها معان غير معناها في العصور القديمة. ولكن هذا التغير الذي طرأ عليها في مدى خمسة عشر قرنًا لا يكاد يقاس بشيء مما طرأ على اللغات الأوربية القديمة والحديثة في مدى خمسة قرون. فكلما كانت عوامل التغير أكثر فاعلية والظروف المحيطة باللغة أقل مقاومة كان التطور أشد وأسرع، وكلما تنوعت هذه العوامل كان التغير أكثر تنوعًا.

وقد امتازت اللغة العربية بظروف عدة جعلتها أقل تعرضًا للزعزعة والتغير؛ إذ كانت منذ بدأ انتشار العرب في أقطار الأرض لغة الدولة ولغة الدين. فالشعوب التي ضمتها الدولة العربية تلقت في وقت واحد لغة الدولة ودينها، وهذا على خلاف الشعوب التي ضمتها الدولة الرومانية مثلاً، فإنها تلقت لغة الدولة وحدها فكانت اللاتينية لغة الأقلية الحاكمة أو المتصلة بالحكم، على حين بقيت جماهير الشعوب تتكلم بلغاتها وتتدين بدياناتها الموروثة. ولما تسربت المسيحية إلى شعوب أوربا بعد عدة قرون من الفتح الروماني لم تكن عاملاً جديدًا على إذاعة اللاتينية في صفوف جماهير الشعوب؛ لأن المبشرين كانوا يلتمسون أقرب الطـرق إلى نشر المسيحية عن طريق لغة الشعوب.

ومنذ نشأت الدولة العربية بدأت الشعوب المنضوية تحت لوائها تبني حضارة جديدة كانت اللغة العربية أداتها في ميادين الإنشاء جميعًا وكانت أداتها في تطوير العلوم والآداب. وكان للبحوث الدينية نصيب كبير من جهود هذه الشعوب، فالسبيل كان ممهدًا للغة العربية لتكون أداة حضارية تامة في الحياة العادية والاقتصادية والعلمية والأدبية، وكان تطورها في الأسواق والمعاملات مرتبطًا إلى حد كبير بتطورها في معاهد الدين والعلم، هذا على خلاف ما قدر للغة اللاتينية مثلاً فإنها دخلت إلى أوربا فاستقبلها عهد من الاضطراب والغارات البربرية وانتكاس في الحركة العلمية والأدبية؛ من أجل هذا كان التطور في لهجات العرب بصفة عامة مقتصرًا على ما تقضى به العوامل الفعالة في حياة الناس مثل: تيسير أساليب التعبير بها وتبسيط تراكيبها، وإدخال مالا غنى عنه من المصطلحات الشائعة في الأعمال اليومية التي كانت مستعملة في البلاد قبل الفتح العربي، على حين بقيت اللغة الفصحى حية قوية في معاهد العلم وفي حركة الآداب ونمو الحضارة. أما لهجات الشعوب العربية فقد اختلفت في مقدار ما اعتراها من التغير تبعًا للظروف الخاصة التي أحاطت بكل منها قبل أن يشملها الفتح العربي وبعده، ولهذا كان لابد من إشارة إلى أهم تلك الظروف المحيطة بشعب ليبيا قبل التحدث عن لهجته العربية والخصائص التي تتميز بها. ولابد لي هنا من تكرار الاعتراف الذي بدأت به في أول هذا الحديث وهو أن البحث في هذا الموضوع يحتاج إلى جهد أعظم وبحث أوفى.

الشعب الليبي القديم من أقدم شعوب الأرض، وقد عرفه المصريون القدماء منذ فجر تاريخهم. ويكاد يكون من الثابت اليوم أنه لم ينحدر من جنس واحد، بل كان مكونًا من عنصرين تمازجا على مر الزمن، أحدهما من جنس يشبه شعوب البحر الأبيض المتوسط، والآخر من جنس يشبه الشعوب الشمالية. ومن امتزاج هذين العنصرين تكون الشعب الذي عرف فيما بعد باسم شعب البربر، وهو الاسم الذي عرفهم به العرب.

وقد طرأت على هذا الشعب في العصور القديمة شعوب أخرى حلت في بقاع محددة من الساحل، وكان أهمها اليونان في سواحل برقة والفينيقيين في سواحل طرابلس، ولكن أثر هذين في دواخل الأرض كان محدودًا.

ولما استـولى الروم على ليبيا كان له أثر عظيم في تكوين حضارة أهـل المدن ولاسيما الساحلية، ولكن انعزالهم عن طبقات الشعب لم يجعل للغتهم أثرًا كبيرًا في لسان الآهلين. والظاهر أن الرومان هم الذين سموا أهل ليبيا بالبربر، وهذا يدل على قلة اتصالهم وامتزاجهم بهم.

ثم فتح العرب أفريقيا في القرن السابع الميلادي ( الأول الهجري )، وكانوا أول شعب فاتح توغل في دواخل البلاد ولم يقتصر نزوله على مدن السواحل. وكان هذا الفتح مبدأ لتطور كبير في لغة البلاد، كما كان مبدأ تطور أساسي في حياة شعبها. وسنعود إلى الحديث عن ذلك فيما يعد.

ولم يكن الفتح العربي آخر عهد ليبيا بالاتصال بالشعوب الأخرى، فقد اشتملت عليها الدولة العثمانية كما اشتملت على غيرها من البلاد العربية ثم غزاها الإيطاليون في أوائل القرن العشرين؛ فكان لهذا الاتصال أثر في تطعيم اللهجة الليبية بألفاظ من اللغة التركية واللغة الإيطالية.

غير أن الأثر الذي كان للفتح العربي في ليبيا كان أثرًا غالبًا شاملاً تغلغل في أعماق الشعب حتى طوى كل الآثار التي سبقته والآثار التي طرأت على البلاد بعده.

أقام اليونان في برقة وأنشأوا حضارة عظيمة على سواحلها ما تزال آثارها باقية إلى اليوم تشهد بمقدار ما بلغوه من القوة، واستمروا هناك منذ حوالي 700 قبل الميلاد إلى ما بعد عهد البطالمة أي ما يزيد على سبعمائة عام، وغلب الروم على البلاد قبل القرن الأول للميلاد إلى القرن السابع عندما طردهم العرب منها، فكانت مدة سيادتهم نحو سبعمائة سنة كذلك. ثم فتح العرب شمال أفريقيا في القرن السابع إلا أن حكم البلاد آل في أوائل القرن السادس عشر إلى الدولة العثمانية التي بقيت في حكمها إلى أوائل القرن العشرين.

ولكن الأثر الذي أحدثه اليونان والروم والترك لا يقاس بشيء إلى جانب الأثر الذي كان للعرب في تلك البلاد سواء من ناحية الحضارة وأسلوب الحياة أو من ناحية اللغة.

وقد حاول بعض الباحثين ولاسيما الإيطاليين منهم تعليل هذه الظاهرة فقالوا إن السر فيها هو تشابه الشعبين العربي والبربري في أسلوب الحياة؛ إذ كان كلاهما يحيا حياة بدوية متقاربة الأنماط. ومعنى هذا أنهم يزعمون أن العرب منذ فتحوا شمال أفريقيا لم يجدوا صعوبة في الامتزاج بأهل ليبيا؛ لما بين الفريقين من التشابه في البداوة وأسلوب الحياة، وأن العرب استطاعوا وهم لا يزيدون على جيش فاتح أن ينشروا لغتهم في الملايين الذين كانوا يعيشون في هذه الأرض المترامية الأطراف، منذ استطاعوا أن يملكوا أزمة الحكم ويطردوا جيوش الروم من تلك البلاد.

غير أننا نستدرك على هذا القول ببعض ملاحظات نعتقد أنها ذات دلالة كبرى:

فإن الفتح العربي الأول لم يستقر في شمال أفريقيا إلا بعد نهاية القرن الأول الهجري ويعزز هذا ما ذكره ابن خلدون في تاريخه من أن البربر انتقضوا على العرب منذ بدء الفتح إلى نهاية القرن الأول الهجري اثنتى عشرة مرة، وإن كان كثير منهم أسلم وحسن إسلامه .

ولما استقر الأمر بعد ذلك للعرب بدأ البربر يدخلون في الإسلام أفواجًا، غير أنهم مع ذلك احتفظوا بنظامهم القبلي الخاص وعصبيتهم القومية ولغتهم البربرية إلى جانب اللغة العربية، ولم يأت القرن الرابع حتى آل الأمر إليهم بحكم أنهم كانوا أكثرية في العدد، وصارت القبائل العربية والقبائل البربرية تتعامل فيما بينها على أساس مصالحها فتتعاهد فيما بينها أو يتصادم فريقان منهم، وفي كل فريق قبائل عربية وأخرى بربرية.

فلم يكن هناك غلبة حقيقية للشعب العربي على الشعب البربري منذ الفتح، وإن كانت الدولة العظمى المعترف بها من الجميع هي الدولة العربية.

فتشابه أنماط الحياة البدوية بين العرب والبربر لم يكن في أول الأمر عاملاً على التمازج، بل لعله كان عاملاً على التمايز والشعور بالعصبية.

ولو جاز لنا أن نعقد المقارنة بين الشعوب في هذا المعنى لقلنا إن موقف البربر من العرب في أعقاب الفتح كان شبيهًا بموفق الشعب الفارسي منهم، وكان من الممكن أن يكون مصير اللغة العربية في ليبيا مثل مصيرها في بلاد فارس، لولا أن حدث انقلاب كبير في القرن الخامس الهجري عندما اجتاحت قبائل سليم وهلال أرض إفريقية .

كانت هذه القبائل تقيم في الحجاز وما يليه من أرض نجد، فكان بنو سليم في جوار المدينة وكان بنو هلال في جوار جبل غزوان قرب الطائف. وقد اشتهرت مجموعة هذه القبائل بالمغامرات والمشاركة في الثورات، فأدى ذلك إلى انتقالهم إلى صعيد مصر ليكونوا أقرب إلى مراقبته. ولكنهم استمروا على طبيعتهم الأولى حتى ضاق بهم وزراء الخليفة المستنصر باللـه.

وكان المعز بن باديس البربري الصنهاجي قد خرج على سلطان الخليفة الفاطمي واستقل بحكم المغرب الأوسط ودعا للخليفة العباسي القائم، فرأى اليازوري وزير المستنصر الفاطمي أن يقذف ببني سليم وبني هلال على إفريقية؛ ليحقق غرضين في وقت واحد وهما: إخضاع المعز بن باديس، والتخلص من قبائل سليم وهلال، فأخذ يحرض هذه القبائل على الرحيل إلى الغرب وامتلاكه وكان يبذل لكل فرد منهم دينارًا وراحلة.

ويصف ابن خلدون غارات هذه القبائل على إفريقية في مواضع عدة من تاريخه، ويكاد يكون وصفه في صيغة واحدة نضرب لها مثلاً بالعبارة الآتية: " قال: وأما إفريقية كلها إلى طرابلس فبسائط فيح كانت قاعدتها القيروان، وهي لهذا العهد مجالات للعرب وصار بنو يفرن وهوارة مغلوبين تحت أيديهم وقد تبدَّوْا معهم، ونسوا رطانة الأعاجم وتكلموا بلغات العرب وتحلوا بشعارهم، وأما برقة فدرست وخربت أمصارها وانقرض أمرها وعادت مجالات للعرب بعد أن كانت دارًا للواتة وهوارة وغيرهم من البربر، وكانت بها الأمصار المستجدة مثل لبدة وزويلة وبرقة وقصر حسان وأمثالها فعادت يبابًا ومفاوز كأن لم تكن.

ولكن موجة هذه القبائل - وإن دمرت الأمصار - كان لها أثر حاسم في تعريب شمال أفريقيا بصفة عامة وإقليم ليبيا بصفة خاصة .

حل بنو سليم في برقة فاضطرت القوة المحاربة من قبائل لواتة وهوارة إلى الجلاء عنها، وبقيت جماهير الأهلين خاضعة للعرب الغزاة ولم يلبثوا أن امتزجوا بهم وانتسبوا إليهم، أو كما يقول بعض الكتاب ذابوا بينهم.

ولما عرف سائر قبائل سليم وهلال في شرقي النيل بصعيد مصر وفي سهوب سوريا بما ناله إخوانهم من النصر في أفريقيا بادروا إليهم بغير تشجيع، بل قيل إنهم كانوا في مصر يدفعون للدولة دينارين عن كل راغب في الرحيل. وتجمع من هؤلاء عدد كبير سار مع قبائل بني هلال نحو الغرب. وسارع مع هؤلاء عدد آخر من أبناء القبائل المختلفة من فزارة وأشجع ومن هوازن ومن اليمنية والقيسية والنـزارية.

واندفعت الموجة غربًا حتى بلغت تونس فالجزائر فالمغرب الأقصى، وكانت قوتها تخبو كلما اتجهت إلى الغرب.

فأول إقليم تعرض لها كان طرابلس الغرب الذي صار إلى مثل ما صارت إليه برقة من قبل، من أجل هذا عمت العروبة أرجاء برقة ثم أرجاء طرابلس، وتسربت شعب من هذا الأثر إلى قبا في الجنوب فلم يبق من أثر البربر خالصًا إلا قطع قليلة مثل واحة أوجلة في برقة وجبل نفوسة في طرابلس، حيث احتفظ البربر إلى اليوم بشخصيتهم ولغتهم، إلى جانب اللغة العربية التي يستخدمونها في معاملاتهم مع مواطنيهم العرب.

وكان هذا الانقلاب الكبير عاملاً قويًّا على سيادة اللغة العربية في ليبيا سيادة تكاد تكون تامة، فيمكن إن يقال إن اللهجة الليبية الحاضرة ما هي سوى سلالة صافية من لهجات العرب الذين حلوا في أرض ليبيا في القرن الخامس الهجري، ولا سيما قبائل سليم في برقة وهلال في طرابلس مع بقاء آثار قليلة فيها من اللغة البربرية.

كما يمكن أن يقال إن سيادة اللغة العربية كانت أتم في جانب الشرق ( برقة ) مما هي في جانب الغرب منذ أخذت موجة الغلبة تضمحل كلما اتجهت غربًا . واللهجة البرقاوية فيما يبدو سلالة عربية أصفى من لهجة طرابلس أو ما يليها من صحراء فزان.

فإذا أردنا أن نتعمق دراسة اللهجة الليبية أو بقول أصح اللهجات الليبية كان علينا أن نلم بخصائص لهجات القبائل التي حلت بأقاليمها، وأن نعقد المقارنة بينها وبين لهجات الأقاليم الأخرى التي حل بها بعض هذه القبائل مثل صعيد مصر وأرياض حلب، وهذا أمر يحتاج إلى كثير من الدرس والبحث ويحف به غموض كثير من ضباب العصور. فلنقنع إذن بإبداء بعض ملاحظات على هذه اللهجات بغير أن نتتبعها إلى أصولها في الوقت الحاضر.

ومن الضروري إبداء ملاحظة في هذا الموضع من الحديث؛ فإننا إذا أردنا تحديد عروبة لفظ من الألفاظ لم يكن لدينا وسيلة غير أن نستأنس بالمعجمات، وما هي سوى سجلات لبعض الألفاظ العربية ولا يمكن أن نصفها بالشمول، فمن المحقّق أن جامعي المعجمات لم يتح لهم استيعاب لغة العرب في كل مكان، ولم يكن من الطبيعي أن يحيطوا بكل ما جرى على ألسنة كل القبائل من المفردات. ولهذا نجد من الألفاظ الشائعة في لهجات العرب بصفة عامة وفي لهجة ليبيا بصفة خاصة كثيرًا من الألفاظ التي يدل جرسها على عروبتها وإن لم يكن لها أصل في المعاجم. ومما يعزز القول بأن لهجات ليبيا على وجه العموم سلالات صافية من لهجات عربية صميمة أن اللغة الجارية على ألسن العامة قد احتفظت في تطورها ببعض المميزات التي لم تحتفظ بها بعض اللهجات العربية الأخرى كاللهجة المصرية، ومن ذلك ما يأتي:

1- صحة النطق ببعض الحروف التي تحرفت في اللهجة المصرية وهي الثاء والذال والظاء .

2- استخدام طائفة من الألفاظ العربية الكثيرة الاستعمال مثل: هذا هبيا الأقصى الأدنى الأوطا ( لوطا ) ما زال ولىّ ناض ( نهض ) ودبش ( الأثاث ) يرقى ( بمعنى يصعد ) يظهر ( بمعنى يخرج ) الغدوة ( الظهر ) العشية ( بعد الظهر ) كيف الحديد (في المتانة) يرقد ( ينام ) عيّان ( متعب ) أحسنت ( للشكر ) توة ( الآن )، ولو أمكن حصر مثل هذه الألفاظ لاتضح أن نسبتها في اللهجة الليبية تدل على أن تلك اللهجة ما تزال تحتفظ بكثير من عروبتها .

3- استعمال نون النسوة عند الكلام عن النساء أو جمع غير العاقل.

وأما مميزات هذه اللهجة فأهم ما استرعى انتباهي منها ما يلي :

( أولاً ) أن النطق بالجيم فيها ينطوي على شيء من المبالغة، ولا سيما في طرابلس حيث تصل المبالغة في ذلك أحيانًا إلى قلب الجيم زايًا في بعض الأحوال، كما هي الحال في لفظ زوز (زوج)، وزنزور ( جنـزور )، وزردة ( بمعنى النـزهة في الصحراء ) ولعل أصلها ( جردة )، وهدرزة بمعنى الدردشة ولعل أصلها ( هدرجة ) ( من الهرج ). وأرى أن هذه الظاهرة أثر من اللغة البربرية .

قال ابن خلدون عند تفسير اسم قبيلة زناتة: إن أصلها مشتق من اسم ( جانا ) ( وهو أبو القبيلة ) فجمع أهل القبيلة في اسم ( جانات )، وأن نطق البربر بهذه الجيم ليس من مخرج الجيم عند العرب .. فهم يبدلونها ( زايًا ) محضة.

(ثانيًا) أن النطق بالضاد يختلط بالظاء، ولعل هذه عدوى من طريقة نطق الأتراك بالضاد.

(ثالثًا) أن القاف تنطق عندهم جيمًا قاهرية وهي حرف ( الجاف )، وشأنهم في ذلك شأن العرب في كثير من البلاد العربية.

(رابعًا) تتميز اللهجة الليبية بالإمالة وهي أشد في طرابلس منها في برقة فيقولون مشي بإمالة الألف .

(خامسًا) يشتد الضغط في لهجة ليبيا على الجزء الأخير من الكلمات مع إسكان الحرف الأول إن كان متحركًا وما يليه متحرك فيقولون: ظهر وكمل وقلم ومطر، وهم يصيغون عند النطق ألفًا لتيسير النطق وقد يضيف بعضهم عند الكتابة ما يمثل النطق بهذه الألف. فيكتبون مثلاً ( أثقال ) ويريدون ثقال .

(سادسًا) من مميزات هذه اللهجة شدة النبر، ومما يجعله أوقع أنهم ينطقون بالياء الساكنة مجزومة فإذا قال أحدهم: صباح الخير. وكد النطق بالياء المجزومة فتكاد لا تسمع إلا ( الخير ).

(سابعًا) ومن مميزاتها كذلك تلوين الصوت بما يعبر عن المعنى فيرفعون الصوت في شيء من المبالغة عند الاستفهام والتعجب أو التوكيد، فتقع عباراتهم حادة في السمع ولكنها تكون قوية التعبير وفيها لون من الجد الصارم.

(ثامنًا) في هذه اللهجة كما في سائر اللهجات العربية بعض مصطلحات خاصة جرت عادة الناس على استعمالها، ومن اليسير إرجاعها إلى العربية الفصحى وإن كانت تختلف عن مصطلحات اللهجات الأخرى التي قد يمكن إرجاعها إلى العربية الفصحى كذلك.

ومن الطبيعي أن يكون لكل قوم عرفهم في الاصطلاح. ولو أمكن جمع هذه المصطلحات لكانت منها ذخيرة عظيمة للمقارنة بالمصطلحات الشائعة في اللهجات العربية الأخرى، وقد يكون في ذلك فوائد جمة للبحوث اللغوية .

ففي التحية يفضلون أن يقولوا: صباح الخير ومساء الخير وكي ( كيف ) أصبحت وكي أمسيت ويقولون عادة صباح الخير كي أصبحت، ومساء الخير كي أمسيت مع رفع الصوت في ( الخير ) حتى يكاد يكون اللفظ الذي قبلها غير مسموع.

ومن تحاياهم: لا بأس عليك، وإياك طيب، وكي الحال وكي حال العويلة. إلخ .

واللفظ الدال على الاستحسان ( باهي )، والدال على الكثرة ( ياسر )، وهذا اللفظ أكثر شيوعا في الغرب .

وقد يقولون ( ياسر هليه ) أي كثير جدًّا، وأغلب الظن أن ( هليه ) لفظة بربرية إذ هي أكثر شيوعًا في جبل نفوسة .

وإذا قيل لأحد أن ينتظر قيل له: ( أرجي )، ويقال هيا هيا ( للحض )، وسوا سوا معناها على حد سواء، واللعوصة التعريح ولعل أصلها ( لاوص )، وإذا عرجت على متجر فأنت تخطم عليه، والسلعة إذا نفدت فقد ( كملت ). وإذا سألت عن ثمن السلعة قلت ( قد آش ) والثمن ( السوم ) ويسألك البائع ماذا تبغي ( شن تبى )، وإذا قلت لا شيء قلت ( شي ) بإسكان الياء مع رفع الصوت للتعبير. ودز معناها بعث ودف بمعنى دفع، وخم أي ظن، ولعل هذه الألفاظ محرفة من دس ودفع وخمن. وإذا سألت عن شيء مستغربًا قلت زعمًا؟، ويتدهور معناها يتمشى في نزهة، والقوم ( يهدرزون ) أي يتسامرون، وقد قضينا وقتًا معًا أي نتحدث، والعاقل لا تعجبه ( الدوة ) الفارغة. ومن استعجـل فتى لقضـاء أمـر قـال لـه ( فيسا فيسا ) أي ( في الساعة )، ولكنهم إذا أرادوا التعبير عن ( لسه ) المصرية قالوا ( ما زال ) والحوش المنـزل والدار الحجرة وقد يقول أحدهم عن الشقة في المنـزل (الأيارتمنتو) وعن العمارة (اليلاتزو) وعن الحديقة ( جاردينو ) وعن الفندق (البرجو) وهذه عدوى من الإيطالية .

وإذا استعمل أحدهم لفظ (الفركنة) الإيطالية للشوكة فالملعقة هي ( الكشيك ) التركية والصنبور الششعة وشيشة الزيت زجاجة منه.

فكثير من لغة الحضر تمتاز بالعدوى الإيطالية والتركية. ولكن الريف والبادية تسمى الإبل ( بل ) والغنم ( السعي ) والكثير معناه ( واجد ) ويصبي أي يقف ويقعمز أي يجلس والشيء المجهز ( واتى ) وقد يؤتي الخادم لك الطعام أي يجهزه والحزاز الذي يفصل بين المتنازعين وفي المثل ( حزاز ومحام ).

ويقولون هكى بمعنى هكذا وعدول وهدوناي أي هؤلاء وغادي بمعنى هناك وديمة أي دائمًا، وهنى أي هنا و ( لين ) أو ( نين ) أي إلى أن .

وللبدو ميزة في استعمال الألفاظ العربية القحة مثل المزن والخناب، والرقراق والضحضاح وحوليا الناقة وباصورها أي سرجها والقحطان أي القحط ( ووان الخرفان ) أي أوان الخريف، والقدع وعاء حليب الناقة، والنقز هو القفز، والواعر الشديد، والذلال الجبان، الحيران جمع حوار.

قال الشاعر البدوي يصف الإقدام نحو المعركة: جابلهم ذرع الحيران جراد عما ريحه طائر ( أي قابلتهم أذرع صغار الإبل وهي تسرع كأنها جراد طائر مع ريحه ).

(تاسعًا) من أقوالهم ( خذا ) بمعنى أخذ والأمر من ( خوذ ) وقد ( كليت ) أي أكلت وكول هو الأمر .

ولعل هذه بقايا لهجة عربية .

وفي أقوالهم التي لم يمكن الوصول إلى أصل عربي لها، وإن كانت بدوية الطلعة قولهم في الشعر عن الناقة: ( أم جرعود ) أي الناقة ذات العنق الطويل، وطبس بمعنى انحنى ويقولون طبس تخطاك، ويقولون سجد المسافر أي أشبعه، وسجد أي أسرع، وهذا الأمر ما يسجمش أي لا يصح، وهو يتعجل الشيء أي يتأمله ولعله مشتق من المقلة.

(عاشرًا) قد تقلب بعض الألفاظ بتقديم بعض حروفها وتأخيرها مثل قولهم عماى ( أي معي ) وقولهم نقص أي نصف .

(حادي عشر) ولا يفوتني أن أذكر شاعرية اللهجة البدوية أو شاعرية أهلها الذين جعلوا منها أداة تعبيرية رائعة، وكثيرًا ما استخدمها الأهلون لتسجيل مشاعرهم ولاسيما في أيام المحنة في الحرب الإيطالية.

وهذا مطلع قصيدة يستبشر فيها الشاعر لقرب الفرح:

خشوم مزن يانن والمصايب هانن أن صح نوّ يرجعكن على مرباكن

وقال يخاطب عينيه:

على كيفكن سيلن أن ضاق أوعاكن عمري عليه الوطن ما نهناكن

وقال آخر في مثل هذا المعنى:

ديمه شلن وابكن نهار وليل نين تجلن

( وشلت العين: سال دمعها )

وقال آخر:

يا وطننا ما حال دايم ديمه الأيام لابد لهن تبريمه

وقال آخر في وصف بئر استولى عليها العدو:

شرقيه قارات وغرود وغربيه منقار عالي

شرابه دوا لام جرعود غبر للعـدو موالي

وقال شاعر في قصيدة طويلة يصف حاله في معتقل الإيطاليين:

ما بي مرض غير دار العجيلة وحبس الجبيلة

وبعد الجبا من بلاد الوصيلة ( القبا قد تكون من قولهم قبا قوسين أي قاب قوسين أو لعلها جمع قبابة وهي المفازة )

ما بي مرض غير فقد الرجال وفنيت المال

وحبسة نساوينا والعيال

وجاء فيها: والفارس اللي كان يمنع المال نهارت جفيله ( أي في يوم فزع )

طايع لهم كيف طوع الحليلة

طايع لهم كيف طوع الولية إن كانت خطية

( أي يطيعهم كما تطيع المرأة الخاطئة )

ترمي الطاعة صباح أو عشية

ما بي مرض غير خدمة بناتي وجلة هناتي

وفجدت اللي من تريس بواقي

( التريس: الرجال، والتراس بتشديد الراء الرجل )

وغيسبة غزير القصى بوعناني العايز مثيله بهون على القلب ساعة جفيله

( غزير الناصية: الفرس واسمه بوعناني ) .

وقال يندد بسيادة الأرذال :

الراعي معجل جمال القناطر فحولة كحبله ومطلج جعادين فوق الخويلة

( الراعي بعقل الجمال الأصيلة ) ( ويطلق الجمال الصغيرة )

وقال آخر:

حياة الهونـة غزيح دمــع لــولا الغـار تحمى دونــه

فيها انحرج لولا دموع عيونه محروج غازع طول عمري كلـه

وقال آخر:

يا جهرني منها حياة الذلة حكم الأجانب والعوز والجلة.

ولم يقتصر الشعر البدوي على تسجيل هذه المشاعر الوطنية بل فيه كثير من الشعر العاطفي وشعر المواقع بين القبائل:

وقال شاعر يصف حالة من الحزن لفراق أليفه قطعة جاء فيها:

أينوس خاطري مهيوس من ياسر ناس كانوا له ونس

قال أحدهم يعزي صديقه في جفاء أليفه:

عدى غاليك يا عين الحاصل لك في تاني بر

وقال شاعر قصيدة يصف حملته مع قبيلته للانتقام من عدو أغار عليهم نقتطف منها بعض قطع في الوصف:

قال يصف أول مقابلتهم للمغيرين الذين يهربون أمامهم في سرعة:

جايلهـم ذرع الحيـران جراد عما ريحه طائـر

تلاجوا مقطوعن الحجزان تعلا فيه الصادى يمـر ( الصادي الرصاص )

نهار فيه الـذلال ببـان وفيـه الخيرة يتذكـر

بطابح ما عنـه نشدان يدوسوا فيه دمـاء بحر

* * *

أدعدع صف الغـزى ولان هزم ما عاودنى(1) أنضر

حلف سيد الفاشـى بإيمـان يمينًا واعر نيـن أكفـر ( الفاشي: الكتيبة )

أن نخبط فـأول غزيان على لـو حيزوا دون أبحـر

* * *

وقال يصف نهاية المعركة:

اللي فاجد غالي في كيان حداهم خذ ليلة ساهر

زجيح عويلة والنسـوان قطــا جاشـايـل

( كان زقيق عويلة ونسوانه فطا هفه ريح سموم قبلي )

هف: اسم أيام قبايل(1).

هذه أمثلة تدل بوجه عام على أن لهجة ليبيا بصفة عامة والبدو منها بصفة خاصة لهجة من سلالة عربية خالصة ما تزال تحتفظ بكثير من خصائصها الأولى، وإن داخلتها بعض مصطلحات من عدوى الشعوب التي ساكنت العرب في البلاد في عصورها المختلفة. وقد اعتراها ما اعترى سائر اللهجات العربية من تحوير في الأسلوب وإهمال للإعراب . ولكنها بصفة عامة أصح اللهجات أو هي من أصحها وأقربها إلى العربية الفصحى.

* * *

ــــــــــ

(1) العبارة غير واضحة بالأصل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأمثال الشعبية الليبية

غـــنـــــاوي وشـــتـــــاوي على ( الــــقــــــديـــــــم )

ما بي مرض غير دار العقيلة.. للمجاهد الفقيه رجب بوحويش