ليبيا.. انتهت مظالم القذافي وبقيت سوء الإدارة


بقلم : بولا ميجيا

ثروة ملعونة
وفقا للنظرية الاقتصادية التقليدية، تصبح الدول التي تتمتع بموارد طبيعية أكثر عرضة لعدم المساواة وتراجع النمو وزيادة احتمالية تعرضها للنزاعات. وتعد ليبيا نموذجا على ذلك، ولكن ما هي الاستراتيجيات التي تستطيع ليبيا تنفيذها لكي تحول مواردها إلى نعمة؟
النفط الليبي.. ثروة تحت الحراسة

النفط الليبي.. ثروة تحت الحراسة

لقد كان الاقتصاد الريعي لليبيا في عهد القذافي على قمة المظالم الاجتماعية – الاقتصادية التي أدت إلى اندلاع الثورة الليبية. فعلى الرغم من أن عائدات البترول قد سمحت لليبيا بمراكمة الثروة، عانى الاقتصاد من عدد من المشكلات المتعلقة بالاقتصاد الكلي. وبحلول عام 1973، كان لدى ليبيا اقتصاد ثنائي غير متنوع تهيمن عليه الدولة متأثرا بالسعي وراء النشاطات الريعية والعجز التنظيمي. وتسللت آثار السمة الريعية للاقتصاد الليبي إلى كل من البنيتين الاقتصادية والسياسية للبلاد. كما سمح فائض موارد البترول للنخب السياسية بالقضاء على المؤسسات الحكومية، حيث سمحت للمحيطين بالسلطة للعمل دون رقابة.

ورغم أن النظام استمر لمدة تزيد عن الأربعين عاما، فإن العقد الاجتماعي لليبيا كان غير قابل للاستمرار كما اتضح من اندلاع الثورة، حيث ساعد التوزيع غير المتوازن للثروة، وضعف الشفافية والحوكمة، والفساد، بالإضافة إلى ضعف تنمية رأس المال البشري على خلق إحساس بالظلم تجاه النظام السابق لم يكن من الممكن معالجته بالطريقة المعتادة. فقد واجهت الحكومة السابقة التي لم تعد قادرة على شراء ولاء مواطنيها ثورة.

وللأسف، ليست قصة ليبيا فريدة من نوعها، حيث تشير النظرية الاقتصادية التقليدية إلى أن عدم توازن الاقتصاد الكلي لليبيا والاضطرابات الاجتماعية التي أسفرت عنه لم تكن بالأمر المفاجئ. فقد كان الاقتصاد السياسي لليبيا يعتمد على المسار التقليدي لاقتصاد البلدان ذات الوفرة في الموارد. فوفقا لنظرية لعنة الموارد، تميل الاقتصادات ذات الوفرة في الموارد إلى النمو بسرعة أقل كما أنها أكثر عرضة للنزاعات من اقتصادات البلدان التي تعاني من ندرة في الموارد. فقد تعرضت ليبيا، على غرار غيرها من الدول الغنية بالموارد في منطقة الشرق الأوسط، على نحو خاص إلى نمو منخفض وغير شامل بالإضافة إلى ارتفاع مستوى المخاطر المحيطة بالاقتصاد الكلي. بالإضافة إلى أن الاقتصاد الليبي كان فعليا غير متنوع ويهيمن عليه تماما قطاع الهيدروكربون الذي كان ينتج ما يقارب 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، أي أكثر من 90 في المائة من العائدات الحكومية و95 في المائة من عائدات التصدير. كما جعل التكامل المحدود للصناعة الثروات التي تنتج عن موارد البترول تقتصر على تلك الناجمة عن التصدير والعائدات المالية بينما وفرت أقل من 5 في المائة من فرص العمل في ليبيا.

وربما يكون أكثر مظاهر لعنة الموارد في ليبيا وضوحا هو التأثير الذي خلفه البترول على مؤسسات الدولة، حيث خلقت بنية الدولة القائمة على تبادل المنافع، والتي أدت إلى تمركز القوة الاقتصادية في أيدي الدولة، بيئة فاقت فيها المصالح الفردية المصلحة العامة وتنازعت معها. وبالتالي، واجهت مساءلة الحكومة الصعوبات، كما أصبح العقد الاجتماعي يعتمد على قدرة الدولة على توفير الريع إلى الشعب في مقابل إذعانه.

ولتوضيح تأثير عقلية الاقتصاد الريعي على سجل الحوكمة في ليبيا، احتلت ليبيا في 2009، المرتبة الخامسة والثانية عشرة في حرية التعبير والمساءلة وفعالية الحكومة على التوالي، وفقا لمؤشر كوفمان (البنك الدولي 2009). وقد اندلعت الثورة في ذلك السياق من سوء التمثيل والتوزيع غير المتوازن للثروة وهو ما منح ليبيا مظهرا آخر من مظاهر لعنة الموارد: الميل للنزاعات العنيفة.

بالإضافة إلى سوء تمثيل المواطنين، أثر الافتقار إلى الشفافية وسعي الدولة المحموم وراء الريع بشدة على تنمية القطاع الخاص، ومن ثم عرقل تنوع الاقتصاد. وعلى الرغم من أن الحكومة السابقة حاولت إصلاح الاقتصاد، فقد أسفرت مصالح النخبة السياسية عن تنفيذ متناقض للسياسات وتراجع الإصلاحات. وبالتالي، كان القطاع الخاص في ليبيا مكبلا تاريخيا بعدد من القضايا بما في ذلك الموارد المحدودة لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتطبيق غير المتوازن لحقوق الملكية، واعتماد معظم الموارد الاقتصادية على قطاع البترول، حيث إن تنمية القطاعات غير البترولية بما في ذلك الخدمات تتطلب مشاركة واسعة عبر استثمارات القطاع الخاص الأجنبية أو المحلية. كما أن سوء الحوكمة الاقتصادية كان ينفر باستمرار الاستثمار في القطاعات غير البترولية.

ولكن الثورة في ليبيا وفرت الفرصة للبلاد لكي تتخلص من سوء إدارة ثروة البترول السابقة وثقافة الحوكمة الضعيفة التي هيمنت على كل من القطاعين العام والخاص. ومن ثم هناك عدد من السياسات تستطيع الدولة تنفيذها لكي تحول وارداتها إلى نعمة بدلا من كونها لعنة.
أولى الخطوات التي يجب على ليبيا أن تتخذها تعزيز التنوع الاقتصادي. فكما أظهرت تجربة ليبيا خلال ثورة 2011، أدى الإفراط في الاعتماد على مورد واحد للحصول على العائدات إلى جعل الاقتصاد معرضا إلى حد بعيد إلى الصدمات في ذلك القطاع. ونظرا لأن 70 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد يعتمد على عائدات البترول، أسفرت حقيقة إجبار الدولة على وقف تصدير البترول لمدة ستة أشهر خلال ذلك العام عن انخفاض بنسبة 42 في المائة في نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وعلى الرغم من أن التنوع الاقتصادي هو في ذاته هدف بعيد المدى، فمن المرجح أن تفيد ليبيا إلى حد كبير من ذلك المسعى لتحقيق التنمية المستدامة. فوفقا لدراسة نفذتها «مجموعة مونيتور»، فإن لدى الدولة إمكانات عظيمة تمكنها من تنمية قطاعات السياحة والبناء والقطاعات الخدمية وغيرها.
رحل القذافي وبقيت سوء الإدارة

رحل القذافي وبقيت سوء الإدارة

ولكن من الضروري أن نأخذ في الاعتبار أن التنوع الاقتصادي هدف نهائي وأنه يجب تحقيق عدد من الإصلاحات بنجاح إذا ما أرادت ليبيا تحقيق تنمية القطاعات الأخرى للاقتصاد. ونظرا لأن تنمية الموارد الطبيعية يجب أن تشتمل بالضرورة على علاقة طويلة المدى مع القطاع الخاص وإصلاح سياسات السوق غير المشجعة مثل تلك التي كانت موجودة في ليبيا في ظل الحكومة السابقة التي لم تنفر فقط الاستثمارات في قطاع البترول ولكنها أثرت أيضا على الاستثمارات في الصناعات البديلة وعرقلت التنوع الاقتصادي الذي توجد حاجة ماسة إليه. فيجب على ليبيا أن تصدر تشريعات مقبولة ومتوقعة تروج للاستثمار بما في ذلك تخفيضات الضرائب والضرائب الموحدة بالإضافة إلى حماية حقوق الملكية.

وبالإضافة إلى التنوع الاقتصادي، من الضروري أن تضع ليبيا قواعد مالية واضحة للتعامل مع عائدات الموارد الطبيعية. فوفقا لصندوق النقد الدولي، يجب الاحتفاظ بالمكاسب غير المتوقعة في حساب خاص واستعمالها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما يمكن للدولة أن تستهدف معالجة العجز في القطاعات غير البترولية لتعزيز التنوع الاقتصادي. وبالفصل الرسمي بين النفقات وعائدات الموارد الطبيعية، تكون الحكومة قد قدمت التزاما عاما بالإدارة المسؤولة لثروة البلاد.

ويقع ضمن التوصيتين السابقتين، أن يعتمد نجاح ليبيا على قدرة الحكومة على تنفيذ ثقافة الحوكمة الرشيدة. حيث إن قوانين السياسة المالية، وقوانين الاستثمار والوعد بتنويع الاقتصاد، جميعها غير كاف لضمان أن تطبق الحوكمة استراتيجية مسؤولة لإدارة ثروات الموارد. فلكي نضمن أن تساعد هذه السياسات ليبيا على تعزيز الإدارة الفعالة لثروتها البترولية، يجب عليها أن تنشر الحوكمة الرشيدة في البلاد.

ويجب أن تتضمن الحوكمة الرشيدة تأسيس حرية التعبير والمساءلة في البلاد. وهو ما سوف يتضمن، بالنسبة لليبيا، وضع سياسة مراقبة للحكومة تمنعها من أن تنزلق مرة أخرى في النشاطات الريعية. وتعد الانتخابات الأخيرة التي تم إجراؤها في ليبيا خطوة مهمة في تأسيس حكومة مسؤولة وتمثيلية تأخذ في اعتبارها مصلحة مواطنيها وهي تضع سياستها المالية.

في أعقاب ثورة 2011، أصبحت ليبيا تقف عند مفترق طرق بالنسبة للتنمية. حيث تستطيع الحكومة المؤقتة أن تستغل الفرصة للإصلاح والتي وفرتها الثورة لكي تطبق الدروس المهمة التي يمكن استخلاصها من إدارة الثروات الطبيعية في بوتسوانا. ومن خلال ذلك، سوف يتمكن الزعماء الجدد لليبيا من التغلب على إرث سوء إدارة الثروات الذي خلفته الحكومة السابقة. وإذا ما تم توزيعها على نحو عادل، يمكن لثروة ليبيا البترولية أن ترفع مستوى معيشة كافة الليبيين وأن تعمل كمورد مهم للصناعات الاستثمارية والمبادرات التنموية. وبدلا من أن تسمح لثروتها البترولية الهائلة بأن تتحول إلى عبء، تستطيع ليبيا استخدام مواردها لضمان الإدارة المسؤولة للعائدات واستخدام مصادر التمويل تلك لتعزيز النمو الشامل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الأمثال الشعبية الليبية

غـــنـــــاوي وشـــتـــــاوي على ( الــــقــــــديـــــــم )

ما بي مرض غير دار العقيلة.. للمجاهد الفقيه رجب بوحويش